اقرا ايضا


بدأ الاهتمام بالخطاب الاحتجاجي لشريحة الشباب التي تنتمي لألتراس فرق كرة القدم، في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بشكل مباشر بعد انتفاضات 2011 التي شهدتها المنطقة. وشكَّل ألتراس مصر ثيمة لأولى الدراسات، التي تم تناولها من زاوية دراسة الحالة، لاسيما بعد ترديد أناشيدهم الاحتجاجية خارج أسوار الملاعب، ومشاركتهم في التظاهرات الشعبية كتلك التي كانت تُنَظَّم أمام السفارة الإسرائيلية، حيث اعتقل على إثرها أحد أعضاء "وايت نايتس" (Ultras White Knights) (UWK07)، وهي أول مجموعة ألتراس في مصر تشجع نادي الزمالك المصري. كما تناسلت الأغاني الاحتجاجية، منها على سبيل المثال لا الحصر: "مش ناسيين التحرير" لمجموعة وايت نايتس، وأغنية" 25 يناير قولنا بأعلى صوت"، وكذلك أغنية "حرية" و"يا غراب ومعشش" لألتراس أهلاوي. وتم إجمالًا مقاربة هذه الخطابات الاحتجاجية في إطار مقولة السياسة المشاكسة (Contentious Politics). 
من هذه الزاوية يمكن أيضًا قراءة الخطاب الاحتجاجي في الملاعب، باعتباره يمثِّل تحولًا مجتمعيًّا؛ إذ إن التنافس الرياضي في ملاعب كرة القدم أصبح "ذريعة" لخلق موقع جديد ونوعي للفاعلية (Agency) الاحتجاجية الشبابية. هذا التحول يسائل طبيعة ونوعية الاحتجاج الذي يظهر في الملاعب وكيفية مقاربة هوية المحتجين الجدد (الألتراس) مع الأخذ بعين الاعتبار الدينامية السياسية لكل بلد على حدة والمحددات الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى هذه الفاعلية الجديدة التي برزت داخل ملاعب كرة القدم وفهم مضمونها في سياق المواطنة الرقمية الجديدة. 
وفي هذا السياق، تبرز إشكالية الدراسة التي يمكن صياغة أسئلتها في الحقل الاستفهامي الآتي: ما سياقات هذا الخطاب الاحتجاجي الجديد في أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية في المغرب؟ وكيف تؤثر التحولات الاجتماعية على الأشكال الجديدة للاحتجاج في المغرب؟ وكيف يمكن فهم منطق الخطاب الاحتجاجي للألتراس: هل نحن أمام صيرورة أم دينامية أم تغير أم فوضى أم ارتباك أم انزلاق أم أزمة أم احتباس أو أمام جميع هذه الحالات مجتمعة؟ ما دور المجال الرقمي في بناء الخطاب الاحتجاجي؟ ما أشكال السلوكات والتعبيرات الاحتجاجية؟ وما مستقبل خطاب الألتراس في المغرب؟ 
مقالات | تمثُّلات الخطاب الاحتجاجي للألتراس في المغرب وتأثيراته السياسية - د. سعيد بنيس
لفهم أبعاد هذه الإشكالية وتفسير متغيراتها، اعتمدت الدراسة نظرية التفاعلية الرمزية عند إيرفين كوفمان (Erving Goffman) التي ترتكز على ثلاث صيغ تشبيهية لتحليل المعنى الناتج عن التفاعلات الخطابية، أولاها: مسرحي، وثانيها: طقوسي، وثالثها: ترفيهي يحيل على اللعب. بالنسبة لكوفمان هذه الصيغ التشبيهية تمكِّن من فهم نوعية وطبيعة التفاعلات المجتمعية التي تمارَس في بنية مغلقة وحاضنة لأفراد بعينهم يُسمِّيها الكاتب المؤسسة الكاملة (Total Institution). فالتعايش داخل هذه البنية يشبه القيام بأدوار داخل مسرحية وأي خطأ من أحد الممثلين يؤدي إلى فشل التفاعل ويتم اعتباره وصمًا (Stigmate) وخروجًا عن القاعدة والطقس. لهذا، فالتجارب المجتمعية تخضع لإطارات تحدد التمثُّلات وتوجه الإدراك وتتحكم في سلوكات والتزامات الأفراد المنضوين في بنيات مغلقة مثل بنية الألتراس. تتميز هذه المقاربة مقارنة بالأبحاث التي تناولت ظاهرة الألتراس بالمغرب كونها تعتبر الظاهرة خطابية ومدنية وليست نوعًا من أنواع العنف والشغب الشبابي. 
فالفرضية الأساسية، التي تُقَدِّم تفسيرًا لأصناف وضروب الخطاب الاحتجاجي للألتراس فيما يتعلق بالحالة المغربية، تقوم على أن الخطاب الاحتجاجي لم يعد مرتبطًا بموقع معين أو تراب محدد، وأن المطالب يتم التعبير عنها عبر خطاب ينهل من فاعلية تشاركية رقمية تتم ترجمتها في مواقع رياضية تمَّ تملُّكها كفضاءات احتجاجية (ملعب كرة القدم). لذلك، يمكن مقاربة الخطاب الاحتجاجي للألتراس من زاوية نظرية التفاعلية الرمزية لكوفمان؛ حيث يعمد الأفراد الفاعلون إلى تنظيم تفاعلاتهم مع المجتمع من خلال "مَسْرَحَة" تُوَزَّع فيها أدوار بعينها تمكِّن من بناء المعنى الجماعي للخطاب. 
ولِأَجْرَأَة هذه الفرضية، اعتمدت الدراسة على مقاربة سوسيولوجية تمتح من المنهج الوصفي التحليلي قواعده ومرتكزاته، وأدوات منهجية كيفية مبنية على أُسُسِ النظرية المتجذرة (Grounded Theory) التي تتأسس على مقاربة استقرائية تتوخى بناء المفاهيم، وهدفها النهائي هو توليد نظريات وبناء الأطر التحليلية من خلال الملاحظة الدقيقة وتحليل المعطيات وتصنيفها في إطار موضوعاتي لفهم الظاهرة. ويمكن إيجاز منهجية النظرية المتجذرة من خلال عدة مراحل منها تحليل أسئلة البحث وتجميع أولى المعطيات وغربلة النماذج المفاهيمية وترميز المعطيات وترتيب المذكرات...إلخ.
وفيما يتعلق بأدوات الدراسة، تمَّ توظيف الملاحظة وقراءة التفاعلات الخطابية واللغوية الرقمية بين أعضاء الألتراس لجمع المعطيات التي ترتبط بمجريات الأحداث والإنتاج الخطابي من سنة 2017 إلى شهر مارس/آذار 2019 بغية تحليل وتوصيف مضمون المتن الخطابي عبر شبكة للتحليل ثلاثية الأبعاد، يركِّز أحدها على إبراز الألفاظ المثيرة وآخر يتجلَّى فيه العمق التفاوضي للخطاب، أما البُعد الثالث فهو لضبط الحقل الدلالي للاحتجاج. 
خلصت الدراسة إلى أن دينامية الألتراس بالمغرب عرفت تحولًا بارزًا بعد سنة 2016، وهو تاريخ صدور قانون المنع، حيث بعد عودتهم إلى الملاعب صار خطاب الألتراس خطابًا احتجاجيًّا؛ فانتقلت معه حلبات الرياضة إلى مواقع لتمرين سياسي للشباب، وعنوانًا لانخراطهم في الصيرورة الاجتماعية والسياسية الوطنية والإقليمية. تمَّ هذا التحول من خلال وعاء الفضاء الرقمي بالنظر إلى خصائص جيل الألتراس الذي يتميز بكونه جيلًا متصلًا يتعايش ويتفاعل أساسًا عبر بوابة الافتراضي لتعميق مرتكزات مواطنته التي أضحت مواطنة رقمية عمادها الرقابة والفضح والكشف، مما خلق معارضين جددًا نشؤوا خارج البنيات الكلاسيكية المنظمة كالأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ويتميزون حصريًّا بخطاب احتجاجي مباشر وصدامي يجمع بين الذات الفردية والذات الجمعية ورافض لنصف الحلول ومناهض لـ"الحُكْرَة" والتهميش. 
وترى الدراسة أن التحول النسقي الجديد في نوعية وخطاب الاحتجاج لدى شريحة الألتراس قد أسهم في تكريس الشعور بالمظلومية كما تعبِّر عنه لازمة "فَ بْلادِي ظَلْمُونِي". وهذا النسق اعتمد حقولًا دلالية بعينها، مثل: عدم العدالة الاجتماعية والممانعة والإصرار والصدامية الجماعية والمرافعة الشعبية والحرمان الاجتماعي والتيئيس وفقدان الثقة في السياسة. فالخطاب الاحتجاجي للألتراس من هذا المنظور تعبير عن انسداد بنيوي لأفق الدولة قد يُسقط عقدة الخوف من ناحية وإمكانية انفلات المجتمع في أية لحظة من ناحية أخرى، ويقابل هذا الانسداد بطريقة متناقضة تضخم في خطاب الفاعلين (حكوميين أو مدنيين) لاسيما أن حاجيات ومتطلبات شباب الألتراس تظل دون إجابات مقنعة ولا تترجم على أرض الواقع. وكل هذه المظاهر ما هي إلا نتاج لمجموعة من التحولات الاجتماعية والتي أنتجت تعبيرات جديدة وخطابًا احتجاجيًّا مضادًّا في المغرب يجسده احتجاج الألتراس. لهذا، ففرضية النفوذ الرمزي لخطاب الألتراس أو الهيمنة الرمزية لخطابهم تظل واردة.
وتبقى هذه الفرضية الأقرب للتحقق بالنظر إلى وقع وفاعلية الخطاب الاحتجاجي لشباب الألتراس وتأثير تدويل منطقه وعمقه التفاوضي على حكومات ودول بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط. يمكن إذن استشراف أن الشعارات المتداولة في الملاعب ستتحول إلى لوازم تتكرر في جميع الاحتجاجات الشعبية بمفهوم "لايتموتيف" (Leitmotiv)، وهذا ما وقع في احتجاجات الجزائريين على العهدة الخامسة عندما ردد بعض المحتجين نشيد "فَ بْلادِي ظَلْمُونِي". فالمتن الاحتجاجي لم يعد مقتصرًا على شباب أو جمهور أو ألتراس فريق معين أو محصورًا في رقعة جغرافية بعينها، بل صار مشتركًا رمزيًّا يتحدى الحدود السياسية ويحيي تضامن شعوب المنطقة ويتحدى حسابات وتوافقات البنيات الرسمية والحكومية من خلال تفاعلات رمزية متحضرة تشكِّل فيها بلاغة الخطابات الاحتجاجية سلاح التحدي والتغيير. 
للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د. سعيد بنيس، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة محمد الخامس بالرباط، المغرب.

كتابة تعليق

ضع تعليقك هنا

Previous Post Next Post