اقرا ايضا

كانت دورية Nature، طوال سنوات عمرها الـ150، شاهدًا على بزوغ العِلْم كمهنة، لكنْ مع انتقال العمل البحثي من المنازل إلى المؤسسات، حُجب دور النساء في العلوم بمعدل متزايد، وتَمَحْوَر التاريخ بصورة ثابتة حول الذكور.

في أوائل القرن العشرين تلقَّت ماري ستوبس منحة من الجمعية الملكية. 


أهدِفُ في هذا المقال إلى تصحيح هذا الخلل، عبر تحديد العوائق التي واجهتها النساء، وإيضاح كيفية تغلبهن عليها، لينجحن في الحصول على تعليم علمي، ويُضْعِفن سطوة المجتمعات والدوريات العلمية والجامعات، إلى أن تَمَكّنَّ تدريجيًّا من إفساح مجال في مراكز الريادة العلمية لِمَن أتين بعدهن.

سوف أحصر تركيزي في نطاق ضيق؛ ليقتصر على المملكة المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، ودافعي إلى ذلك هو أنها كانت بؤرة تركيز دورية Nature في أول 50 عامًا من عمرها. وعلى أي حال.. كانت الإمبراطورية البريطانية بمثابة الخلفية لمشهد البحث العلمي في ذلك العصر.

وأينما ننظر، نجد النساء غائبات - في الأغلب الأعمّ - عن قصة العلم. وإعادة اقتفاء خطوات هؤلاء النساء العاديات اللاتي انشغلن بالعلم - ولسن جميعهن بطلات - يجعلنا ندرك مدى التطور الذي حققناه في إرساء العدل والإنصاف بين صفوف المشتغلين بالعلم.

وللقارئ عذره، إذا ظن أنه لم توجد مهن للنساء في مجال العلم قبل منتصف القرن العشرين؛ فالتصور الشائع الذي يرى أن العلم ظل في الأساس ميدانًا خاليًا من النساء طوال الجزء الأكبر من عمره نادرًا ما يَلقَى ما يعارضه. 

وعلى الرغم من ذلك.. لعبت النساء أدوارًا علمية اتخذت أشكالًا متنوعة قبل تأسيس دورية Nature، بل وظهرن أحيانًا على صفحات الدورية في سنواتها الأولى. لا يعني هذا أن العلم كان مهنة ترحب بوجود النساء؛ فعلى النقيض من ذلك.. ساد المجال قَدْر خطير من التحامل والتمييز، وهو ما فرض قيودًا بالغة الشدة على فُرَص النساء به، لكنّ الاعتراف بدور النساء اللاتي أسهمن في هذا المجال - رغم ما واجههن من عوائق - يهدم الأسطورة التي تزعم أن العلم كان - ولا يزال - مجالًا ذكوريًّا بطبيعته.

ففي أوائل القرن التاسع عشر، استغلت النساء مساحات، اعتبرها الجميع أقرب إلى الطبيعة النسائية لشق طريقهن إلى مجال العلم. فعلى سبيل المثال.. كانت الكتابة العلمية، لاسيما للأطفال، ولعموم الجمهور، والرسوم التوضيحية، والترجمة العلمية، كلها ميادين مأمونة، تستطيع النساء من خلالها المشاركة، دون أن تهدد التفوق الذكوري، أو القوالب النمطية للأنوثة.

ومن المعروف أن مايكل فاراداي قد أشاد بكتاب «محادثات حول الكيمياء»، الصادر في عام 1805، للكاتبة العلمية جين مارسيت، ذاكرًا أن الفضل يعود إلى الكتاب في إلهامه الاشتغال بالعلم. أما ماريان نورث، فكانت رسامة بارزة، متخصصة في الرسوم التوضيحية للنباتات، وعالمة، ومكتشِفة نباتات. وفي فترة لاحقة، تمكنت عالمة الفلك أجنيس كلارك من أن تشق طريقها إلى حياة مهنية ناجحة كمؤلفة للكتب الرائجة حول علم الفلك في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، وفازت في عام 1893 بجائزة «أكتونيان» التي يمنحها المعهد الملكي.

الجمعيات العلمية

عندما خرجت دورية Nature إلى الوجود، كانت غالبية الجمعيات العلمية تتألف - بصورة حصرية - من الرجال. وفي عام 1991، لاحظت لوندا شيبنجر - مؤرخة العلوم في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا - أنه على مدار 300 عام، ظل الحضور الأنثوي الوحيد الدائم في الجمعية الملكية يجسده هيكل عظمي لأنثى، محفوظ في خزانة قسم التشريح1. فعلى غرار الهيئات العلمية النخبوية الأخرى، رفضت الجمعية انضمام النساء إليها حتى عام 1945، بعد 26 عامًا من تمرير قانون الإقصاء (الاستبعاد) على أساس النوع في عام 1919. وقد نص القانون بين بنوده على أنه "يُحظر حرمان أي فرد بسبب النوع، أو الزواج … من الالتحاق بأي جمعية ذات شخصية اعتبارية (سواء أُسست بميثاق ملكي، أم بغير ذلك)".

وقد سارعت دورية Nature بتوبيخ الأكاديمية الفرنسية للعلوم2، عندما رفضت منح عضويتها إلى الفيزيائية والكيميائية ماري كوري في عام 1911، على الرغم من فوز هذه العالمة بجائزة نوبل قبل هذا التاريخ بثماني سنوات. وظهرت الإدانة كالتالي على صفحات الدورية: "إنّ حرمان ماري كوري من المجد والصيت اللذين استحقّتهما على إنجازاتها العلمية البارزة، لا لسبب سوى أنها امرأة، يُعَد عصيًّا على الاستيعاب بالنظر إليه بناءً على أيٍّ من مبادئ العدالة والصواب الأخلاقية". 

إلا أنَّ النساء قاومن أيضًا هذا التيار. ففي عام 1900 تقريبًا، بذلت مجموعة من النساء - تحت قيادة المتخصصة في علم النباتات التطوري، ماريان فاركهارسن - جهودًا منسقة؛ ليتاح لهن الانضمام إلى عضوية الجمعيات العلمية. وبعد نقاش ساخن بين زملاء جمعية ليناين، منحت الجمعية زمالتها لإحدى عشرة امرأة في عام 1905. ورغم ذلك.. اقتصّت الجمعية من فاركهارسن برفض طلب العضوية الخاص بها، وفرضت عليها الانتظار إلى عام 1908، حتى خفتت حدة الاعتراضات، ليتاح التصويت على منحها الزمالة بعد ذلك.

كان الاحتداد والانتقادات اللاذعة من الأمور المعتادة كلما أثيرت قضية قبول النساء في الجمعيات؛ فعندما نظرت الجمعية الجغرافية الملكية في هذه القضية في عام 1900 تقريبًا، اندلع جدال بين أعضاء زمالة الجمعية وأعضائها، بلغ صفحة الرسائل في جريدة «ذا تايمز». وأدّى استبعاد النساء من الجمعيات العلمية إلى منعهن من بلوغ الشبكات، والمكتبات، ومنعهن كذلك من الحصول على المنح، أو التعاون مع غيرهن من العلماء، فضلًا عن أنه جعل طبيعة المهنة بالنسبة إلى النساء مختلفة كثيرًا عن طبيعتها بالنسبة إلى الرجال.

والسؤال الآن.. ما سبب هذا العداء الصريح للنساء؟ أحد الأسباب هو أن العلم نفسه دفع بأفكار - سقطت مصداقيتها - عن وجود اختلافات فطرية في الذكاء بين الجنسين، تحدّ من صلاحية النساء للاشتغال بالعلم. وادَّعى داروين أن التنافس التطوري أدّى إلى بلوغ أدمغة الرجال مستويات أعلى من التطور لم تبلغها النساء، إلا على مستوى المشاعر.

وبناءً على ذلك.. اعتُبر انضمام النساء إلى هذه الجمعيات خطرًا يهدد بتدنِّي مستويات الأنشطة العلمية، وإلحاق الضرر بمكانة الجمعيات النخبوية. وعلى سبيل المثال.. بذل توماس هنري هكسلي - المتخصص في علم الأحياء، وعلم الإنسان، والملقب بـ "كلب داروين الشرس"؛ لمناصرته لنظرية التطور - مساعي لمنع قبول النساء بالجمعية الجغرافية والجمعية الإثنولوجية بلندن، للحفاظ على مكانة هذه الجمعيات وهيبتها3، حسبما صرح علنًا. ومن الجدير بالذكر أن النظريات المبنية على أيديولوجيات حول أدمغة الذكر والأنثى وما ينتج عنها من ادعاءات بقصور فكري لدى النساء لا تزال حية بصورة لافتة للانتباه، كما أوضحت عالمة الأعصاب جينا ريبون في كتابها الصادر في عام 2019 «تحيز الدماغ للنوع الاجتماعي» The Gendered Brain، الذي يوظف العلم كي يدحض هذه الأفكار، فتنتقد ريبون - على وجه التحديد - علم النفس التطوري الحديث، ودراسات الدماغ التي تبحث عن الاختلافات بين الجنسين، التي عندما تجد هذه الاختلافات لا تأخذ بعين الاعتبار سوى التفسيرات البيولوجية لها.

ورغم ذلك.. لا يمكن تجاهل تأثير تلك الآراء، لا سيما على النساء اللاتي كن - ولا يزلن - يقتنعن بها، وعلى المجتمع العلمي ككل. وعلى سبيل المثال.. نوّهت ماري سومرفيل - عالمة الرياضيات والفلك التي حظيت بشهرة واسعة في عصرها - أنها لا تملك "إبداعًا… فتلك الهبة لا تمنحها السماء لـ[الأنثى]"، وذلك في كتاب «ذكريات شخصية من الشباب إلى الشيب»، بقلم ماري سومرفيل، الذي نُشر في عام 1874 بعد وفاتها. وفي مراجعة نقدية4 للكتاب بدورية Nature، وُصفت عبقرية سومرفيل بأنها كانت "استثنائية تمامًا"، لأن "النساء بطبيعتهن غير مهيآت للدراسات التي تتضمن عمليات معقدة من الاستقراء والتحليل". وعلى الرغم من موهبة سومرفيل العلمية الفريدة، حرص المقال كل الحرص على الإشارة إلى أنها حافظت على "طابعها النسائي الجميل". ولم تكتفِ سومرفيل بترجمة كتاب Traité de Mécanique Céleste بالغ الصعوبة للفلكي الفرنسي بيير سيمون لابلاس (الذي نُشر تحت عنوان «ميكانيكا الأجرام السماوية»  Mechanism of Heavens في عام 1831)، بل أضافات إليه ملاحظات توضيحية، وأضحى كتابها النص المعتمد لدراسة الرياضيات العليا في جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة. ولا شك أن مصطلح "عالم/عالمة" قد استحدثه ويليام هيويل - الأستاذ بجامعة كامبريدج - في أربعينيات القرن التاسع عشر، من أجل سومرفيل كبديل لمصطلحي "اختصاصي فلسفة طبيعية"، أو "رجل علم".

على صعيد آخر.. لم تكن الجمعيات العلمية المؤسسة حديثًا - وقتها - شديدة التدقيق في اختياراتها، إذ ظهرت هذه الجمعيات وانتشرت بأعداد كبيرة قرب نهاية القرن التاسع عشر مع تخصص العلم، وظهور رابطات تجمع الهواة من المتحمسين والمعلمين والنساء. وبلا شك.. اضطلع بعض النساء بأدوار محورية في هذه الرابطات. على سبيل المثال.. كانت الكثيرات منهن عضوات فاعلات في الرابطة الفلكية البريطانية، فشاركن في البعثات الاستكشافية، وكن عضوات في مجلس الرابطة، وتولَّين تحرير دورياتها العلمية. وكانت إليزابيث براون عضوًا مؤسسًا في الرابطة، وترأست قسم دراسات الشمس في جمعية ليفربول الفلكية، التي تشكلت في عام 1881، والتي تطورت بعد ذلك لتصير الرابطة الفلكية البريطانية في عام 1890.

قدَّم علم الفلك فرصًا مميزة للنساء، ويُعتقد أن السبب هو أن اختصاصيي هذا العلم ظلوا يعملون ميدانيًّا، في حين تحولت العلوم الأخرى إلى مهن متخصصة، وانتقلت من المنازل إلى ساحات مؤسسية كانت تستبعد النساء. ورحّب علم النباتات كذلك بالنساء، إذ له تاريخ كمبحث نسائي منذ القرن الثامن عشر، ويأتي على غراره علم الحفريات النباتية، الذي شهد حضورًا نسائيًّا قويًّا في العقود الأولى من القرن العشرين5. ومن بين عالمات الحفريات النباتية اللاتي أجرين أبحاثًا ونشرن أعمالهن في هذا الوقت: مارجريت بينسون من كلية هولوواي الملكية بجامعة لندن، وأجنيس أربر، التي تخرجت من كلية نيونهام بجامعة كامبريدج، وهندرينا سكوت، التي مارست البحث العلمي، وتعاونت مع علماء آخرين في بيئة منزلية، وماري ستوبس من جامعة مانشستر.


تعاوُن بحثي دون مقابل

صحيح أن الجمعيات النخبوية رفضت مَنْح زمالتها للنساء، لكنهن تمكّنَّ - رغم ذلك - من إيجاد سبيل للالتحاق بهذه الجمعيات، وشاركن في البحث العلمي بطرق أخرى. ففي الفترة بين عامي 1880، و1914، قدّم ما يقرب من 60 امرأة إسهاماتهن إلى الجمعية الملكية، من خلال تأليف أبحاث علمية، أو المشارَكة في تأليفها، أو تقديم عروض توضيحية في أثناء الأمسية السنوية التي تقيمها الجمعية، التي كانت تُعتبر من أهم أحداث الموسم الاجتماعي بلندن، ولا تزال تقام إلى الآن6.

تَلَقَّى بعض النساء - ومن بينهن عالمة الحفريات النباتية دوروثيا بيت، وماري ستوبس (المشهورة بأعمالها اللاحقة حول تحديد النسل، ولها كذلك سمعة سيئة تتعلق بدعمها فيما بعد لعلم تحسين النسل) - مِنحًا من الجمعية الملكية لتمويل أبحاثهن. وقد سافرت ستوبس على مدار سيرتها المهنية العلمية إلى كثير من البلدان لأغراض بحثية، وقبلت مهام كلّفتها بها الحكومة، ونشرت ما يقرب من 40 بحثًا علميًّا، ولها آراء مهمة حول بيئة غابات الفحم. وإضافة إلى كل ما سبق، حصلت ستوبس على درجتَي دكتوراة من جامعة ميونخ في ألمانيا، ومن كلية لندن الجامعية، وأضحت أول امرأة تنضم إلى هيئة تدريس العلوم بجامعة مانشستر. 

إنّ تصوُّرنا الحديث عن المشتغِل بالعلم، الذي يتقاضى أجرًا، لم يتبلور إلا بحلول العقد الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن الرجال (وبعض النساء) شغلوا أدوارًا مماثلة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، وكان ذلك - في الأغلب - انطلاقًا من ظهور التكنولوجيات والصناعات الناشئة، مثل الهندسة الكهربائية. وحتى عندما تلقَّت النساء تدريبًا جامعيًّا، كن يُمنحن عادةً أدوارًا روتينية متدنية المكانة، على سبيل المثال.. كمساعِدات للباحثين، أو كآلات حاسبة بشرية، في مؤسسات مثل المرصد الملكي في جرينتش في تسعينيات القرن التاسع عشر، وفي الكلية الإمبراطورية في لندن، منذ تأسيسها في عام 1907.

ورغم ذلك.. كان معتادًا - إلى حدٍّ كبير - أن تعمل النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال الذين يتلقّون رواتب، دون أن يتلقين أي أجر لقاء مجهوداتهن. وعلى سبيل المثال.. عملت دوروثيا بيت لدى متحف التاريخ الطبيعي بلندن منذ عام 1898، ولم تتلق أجرًا قط، ولم يُسمح لها بالانضمام إلى طاقم عمل المتحف، إلا في عام 1948، وكانت وقتها في أواخر العقد السابع من عمرها. إنّ فكرة تلقِّي نساء من الطبقة الوسطى أجرًا مَثَّلَت انتهاكًا لجميع مُثُل الأنوثة المهذبة.

وفي أوائل القرن العشرين، طالت تأثيرات هذا التصور إلينور أورميرود، التي قدمت استشارات اقتصادية حول المشكلات الزراعية والآفات، فكان من السهل على نساء الطبقة الوسطى ممن يملكن موردًا ماليًّا أن يمارسن البحث العلمي، أو يقمن بذلك بجانب التدريس، الذي يُعَد إحدى المهن القليلة الصالحة للنساء، التي يُنظر إليها بعين الاحترام، لكنّ نساء الطبقة العاملة شققن طريقهن إلى ميدان العلم على سبيل التجارة؛ فجانيت تايلور - صانعة الأدوات الملاحية، والمخترِعة، والكاتبة في مجال الملاحة - أدارت أكاديمية بحرية في حي إيست إند بلندن في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، وكانت الأميرالية البريطانية إحدى عملائها.

أما إلينور أورميرود، فكانت عالمة رائدة في مجال التكنولوجيا، وكان لها الفضل في تأسيس علم الحشرات الاقتصادي في بريطانيا، لا سيما عبر تقاريرها السنوية التي نُشرت من عام 1877، حتى عام 1901. وعلى الرغم من أن إلينور عَلَّمَت نفسها بنفسها، ولم تحظ بأي مؤهلات رسمية - وهذا لم يكن بالأمر الغريب بين الرجال والنساء في ذلك الزمن، نظرًا إلى تقليد ممارسة العلم كهواية - فقد قدمت استشارات، وألقت محاضرات تدريبية في شتى الكليات الجامعية، وكانت واضعة امتحانات بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة.

شاركت أورميرود كذلك في أبحاث تعاونية دولية، واستُدعيت كشاهدة خبيرة في قضايا قانونية، وكُلفت بتولِّي منصب عالِم حشرات استشاري في الجمعية الزراعية الملكية في عام 1882. ورغم ذلك.. لم تتلق أجرًا، ولم تُمنح إلا ما يغطي نفقاتها المهنية بصورة عرضية، مع أنها ظلت تقدِّم خلاصة خبرتها للجمعية مجانًا طوال عشر سنوات لاحقة.

أحد الطرق التي سلكتها النساء لشق طريقهن في ميدان العلم في هذا الزمن كان التعاون مع زوج أو أحد أفراد العائلة من الرجال، بيد أن الرجل كان يستحوذ على المجد والشهرة، بينما تُصور المرأة دائمًا في دور المساعدة، حتى في حالات المشارَكة العلمية، التي اتسمت بتكافؤ شديد بين أطرافها.

هناك نساء كثيرات قبلن بهذا، ومن بينهن: عالمة الفلك مارجريت هجنز، ومارجريت سكوت رائدة إخراج الأفلام ذات الحركة البطيئة، وعالمة النباتات والحفريات النباتية. فكلتا المرأتين كانتا باحثتَين مستقلتَين، لكنهما تقبّلتا التصورات السائدة في هذا العصر حول الزوجات، باعتبارهن "مساعِدات" لأزواجهن.

ومع ذلك.. كان زوج سكوت مؤيِّدًا بشدة للنساء العالمات، على عكس زوج هجنز، الذي اشتكى من أنّ المرض قد منعه من إثناء الجمعية الملكية عن مَنْح وسام هيوز للبحث المبتكر لخبيرة الهندسة الكهربائية وعالمة الفيزياء هرثا أيرتون في عام 1906. وعقب وفاة أيرتون في عام 1923، أكّد نعيها في دورية Nature أنه كان عليها الاعتناء بزوجها، و"وَضْع الخُفَّيْن المنزليين تحت قدميه، ما إنْ يبلغ بيته"؛ حتى يستطيع تكريس جهوده بصورة أفضل لأبحاثه العلمية7، بدلًا من السعي خلف اهتماماتها العلمية الخاصة. فربما نجحت أيرتون كعالمة، لكنها أخفقت كزوجةٍ من منظور كاتب النعي، على الأقل.

أُجريت بعض من الأبحاث التي جلبت لأيرتون التكريم في المعامل الخاصة بزوجها المعهد المركزي في كِنْسِنْجتون بلندن. ومن بين هذه الأبحاث كتاب «القوس الكهربائي» (The Electric Arc (1902، الذي أصبح مرجعًا معتمَدًا في هذا الموضوع، ونُشر على حلقات في دورية Nature في عام 1899.

ولم يَعُد متاحًا لأيرتون دخول هذا الموقع المؤسسي بعد وفاة زوجها، ومن ثم حَوَّلت غرفة المعيشة بمنزلها إلى مختبر. وأدّى تَقَيُّدها بالعمل في نطاق منزلي في هذا العصر، الذي شهد بداية التركيز على دقة القياسات والأدوات، إلى التشكيك في صحة أبحاثها، وفي مصداقية ما تسهم به من علم.  

وفوق ذلك.. كان على النساء مراعاة الحرص والحذر عند دخول المختبرات، التي كانت تُعتبر ساحة للاستعراض الذكوري، ووجود النساء فيها قد يثير التشكك، بل قد يستدعي أيضًا عداءً صريحًا، لا سيما إذا كان هذا الدخول لأغراض البحث، لا لأغراض تعليمية. وقد أدى هذا العداء - في أغلب الأحيان - إلى إنشاء مختبرات موازية مخصصة للنساء، على غرار «مختبر بالفور البيولوجي للنساء» بجامعة كامبريدج في عام 1884. 

ومع اقتراب القرن الجديد، أُتيح لمزيد من النساء الحصول على تعليم جامعي في مجال العلوم، ولم تَعُد فكرة اشتغال امرأة بالبحث العلمي من الغرابة في شيء. وكان لجامعة لندن دور محوري في هذا الإطار، إذ أتاحت الحصول على درجاتها العلمية (باستثناء الطب) لكل من الرجال والنساء - على حدٍّ سواء - منذ عام 1878.

وحظى العلم كذلك بمكانة قوية في كُلّيتي هولوواي الملكية، وبيدفورد النسوية بلندن؛ فعندما فتحت كلية هولوواي الملكية أبوابها في عام 1886، كانت تضم مختبرات كيميائية وأحيائية جيدة التجهيز.

وسُمح للنساء بالتخرج من الجامعات الاسكتلندية، بعد إقرار قانون خاص يجيز ذلك في عام 1889 (باستثناء كليات الطب، التي لم يُتح للنساء الحصول على درجات علمية منها حتى عام 1916).

ورغم ذلك.. لم يكن انتصار النساء في معركة التعليم العالي كاملًا؛ ففي ذلك العام، استغل الطبيب ويليام ويذرز مور خطابه أمام الرابطة الطبية البريطانية، كي يحذِّر من تعليم النساء تعليمًا جامعيًّا، نظرًا إلى "مخاطر" هذا التعليم على صحة المرأة الإنجابية، وعلى سلامتها العقلية.

إلا أنّ تلك التحذيرات لم ترهب بعض الخريجات الجامعيات، اللاتي أخذن في الاضطلاع بوظائف بحثية، وأقدمن على الحصول على شهادات عليا في المملكة المتحدة، وألمانيا، والولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال.. وَظَّف كارل بيرسون - عالِم الرياضيات والإحصاء الحيوي - عددًا من النساء في معمل جالتون، الذي أُسس في عام 1904 في كلية لندن الجامعية. وتحت إشرافه، حصلت أليس لي - التي دَرَست الرياضيات في كلية بيدفورد - على درجة الدكتوراة في العلوم. ومن الجدير بالذكر أن النساء لم يسمح لهن بالحصول على درجات علمية في جامعة كامبريدج حتى عام 1948 (بعد 27 عامًا من بدء جامعة أوكسفورد مَنْح هذه الدرجات العلمية للنساء)، لكنهن درسن العلوم الطبيعية، وقدّمن إسهامات في البحث العلمي. وفي الفترة من عام 1902، حتى عام 1910، لعبت الباحثات في كلية نيونهام دورًا محوريًّا في تأسيس علم الوراثة8، إذ تعاوَنَّ مع عالِم الأحياء ويليام بيتسون.

وكان هناك طريق آخر لاقتحام مجال العلوم أكثر قبولًا لدى الأفراد في ذلك العصر، وهو التدريس في إحدى الكليات، أو في المدارس الثانوية المخصصة للفتيات، التي بدأ إنشاؤها مع نهاية القرن التاسع عشر. فهناك كثيرات من الخريجات وجدن في التدريس بيئة علمية ملائمة لهن، من بينهن عالمة الرياضيات سارة بورستال، المتخرجة في جامعة كامبريدج، وشغلت منصب مديرة «مدرسة مانشستر الثانوية للفتيات» في عام 1898.


ورغم ذلك، لم يُسَرّ الجميع بهذا التطور. فعلى سبيل المثال.. استغل الكيميائي ويليام أرمسترونج تقريره المقدَّم في عام 1904 إلى لجنة موزلي للتعليم، كي يؤكد على "الإعاقات العقلية" التي أضفاها التطور على النساء، وليُطْلِق تحذيرات شديدة حول التأثيرات "المُدمرة" الناتجة عن السماح لهن بـ"تلويث" عقول الفتيان عبر تدريس العلوم لهم.

من جانب آخر، لم يلقَ العمل المهم الذي اضطلعت به العالمات أثناء الحرب العالمية الأولى - ونهضن من خلاله بإدارة المختبرات، بينما ارتحل الرجال إلى جبهة القتال - ما يستحقه من تقدير، إلا في السنوات الأخيرة9. ومن المثير للاهتمام أن دائرة الأبحاث الصناعية - التابعة للحكومة البريطانية - جَنَّدت ماري ستوبس لصالح المجهود الحربي، وقد شاركت في أبحاث حول مكونات الفحم. أما هيلدا فيبي هدسون، فقد انضمت - كأخريات من عالمات الرياضيات - إلى وزارة الطيران؛ كي تبحث المشكلات في مجال هندسة الطيران.

يميل التاريخ الشائع لقصص النساء في مجال العلوم إلى الاحتفاء بـ"البطلات" المثاليات، مثل إيدا لافليس (التي استخدمت براعتها في الرياضيات في المقامرة في أغلب الأحيان، على الأقل في أواخر حياتها القصيرة)، أو ماري كوري، التي حصلت على جائزة نوبل مرتين، بدلًا من إحياء ذكرى النساء العاديات اللاتي شققن طريقهن إلى العلم قدر استطاعتهن، ونجحن غالبًا في ذلك.

إنّ تَذَكُّر مدى اتساع المشاركة النسائية في مجال العِلْم لن يضع حدًّا لظاهرة طمس دور النساء في العلم فحسب، بل قد يسلط الضوء أيضًا على عدم التوازن القائم حاليًّا بين الجنسين في المجال، عبر التأكيد على أن العلم كان دائمًا - وسيظل - مضمارًا للنساء، بقَدْر ما هو ميدان للرجال.

كتابة تعليق

ضع تعليقك هنا

Previous Post Next Post